نوح عليه السلام:
هاهو - أبو الأنبياء - نوح عليه السلام يقول في مجادلته لقومه : { يا قوم ليس بي ضلالة ولكنِّي رسولٌ من ربِّ العالمين. أبلَّغكم رسالات ربِّي وأنصحُ لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون. أَوَ عجبتم أنْ جاءكمذِكرٌ من ربِّكم على رجلٍ منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون }.
إنّه جواب ملؤه الرحمة والشفقة والصدق في النصح واللطف في الخطاب.
موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام:
وليس بعد طغيان فرعون من طغيان وقد قال الله لموسى وهارون عليهما السلام : { اذهبا إلى فرعون إنه طغى. فقولا له قولاً ليّناً لعلَّه يتذكّرُ أو يخشى }. إنها القلوب الكبيرة قلّما تستجيشها دوافع القسوة عن التعقّل والحِلم، إنها إلى العفو والصفح أقرب منها إلى الانتقام والبطش.
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم من أعظم الناس سلامةً للصدُّور:
هكذا هم أصحاب القلوب الكبيرة، التي لا تعرف الغلَّ أو الحقدَ أو الحسدَ... وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وهاك أمثلةٌ سريعة:
1 - قال أبو الدرداء رضي الله عنه :
كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلّم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبتيه! فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : (أمّا صاحبكم فقد غامر!). فسلَّم، وقال: يا رسول الله! إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء! فأسرعتُ إليه ثم ندمتُ! فسألته أنْ يغفر لي، فأبى عليَّ! فأقبلتُ إليك... فقال: (يفغر الله لك يا أبا بكر ؛ ثلاثاً).
ثم إنَّ عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا.
فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ، فجعل وجهُ النبي صلى الله عليه وسلّم يتمعّر! حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه! فقال: (يا رسول الله! والله أنا كنت أظلم) ؛ مرتين. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : (إنَّ الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبتَ! وقال أبو بكر: صدق ... وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي)؛ مرتين ... فما أُوذي بعدها. خرَّجه البخاري.
2 - عن عائذ بن عمرو المزني رضي الله عنه أنَّ أبا سفيان أتى على سلمان، وصهيب، وبلال، في نفرٍ، فقالوا: (ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها).
فقال أبو بكر رضي الله عنه: (أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ !). فأتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: (يا أبا بكر! لعلك أغضبتهم؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك!).
فأتاهم فقال: (يا إخوتاه! آغضبتكم؟ ). قالوا: (لا، يغفر الله لك يا أُخَيّ).
وهذا الحديث أصلٌ في مشروعية التسامح والتصافح.
3 - وقال ابن عباس بعد أن شتمه رجل:
(إنك لتشتمني وفيَّ ثلاثُ خصال: إني لآتي على الآية في كتاب الله عز وجل فلوددتُ أنّ جميع الناس يعلمون منها ما أعلم ...وإني لأسمع بالحاكم من حكَّام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به، ولعلّي لا أُقاضي إليه أبدًا ... وإني لأسمع أنّ الغيثَ قد أصاب بلدًا من بلدان المسلمين فأفرح به، وما لي من سائمة!).
4 - وهذا أبو دجانة رضي الله عنه :
دخلوا عليه في مرضه ووجهه يتهلل! فقالوا له: ما لوجهك يتهلل؟
فقال: (ما من عملِ شيءٍ أوثق عندي من اثنتين:
كنت لا أتكلَّم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليمًا).
5 - وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
دخل عليه عمران بن طلحة بن عبيد الله بعد وقعة الجمل - وقد استشهد أبوه طلحة رضي الله عنه ؛ فرحّب به، ثم أدناه، ثم قال: (إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك ممن قال فيهم: {ونزعنا ما في صدورهم من غلٍ إخوانًا على سررٍ متقابلين}.
6 - ولقد سار العلماء الربانيون على هذا الهدي، وتلك الطريقة، من الصفح والعفو وسلامة الصدر: قال ابن القيم رحمه الله -:
(وما رأيت أحدًا قطُّ أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية - قدّس الله روحه -، وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: ( وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه! وما رأيته يدعو على أحدٍ منهم قطُّ، وكان يدعو لهم).
قال: (وجئت يومًا مبشّرًا له بموتِ أكبر أعداءه، وأشدّهم عداوةً وأذىً له، فنهرني، وتنكّر لي واسترجع. ثم قام من فوره إلى أهل بيته - أي ذلك الخصم الذي مات - فعزّاهم، وقال: (أنا لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه) ... فسُّروا به ودعوا له، وعظّموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه).
إنَّ الرجل العظيم كلما ارتفع إلى آفاق الكمال اتّسع صدره وامتدّ حلمه، وتطلّب للناس الأعذار، والتمس لأغلاطهم المسوغات، وأخذهم بالأرفق من حالهم.
ويحسن بي في هذا المقام أن أذكر موقفاً طالما سمعناه في الفترة الماضية، وأكثر العلماء والباحثون من التنويه بشأنه، ألا وهو موقف سماحة الإمام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله تعالى - مع ذلك الرجل الخرجي الذي سبَّه وأغلظ له القول، وملخص الموقف:
أنَّ رجلاً من أهل الخرج سبَّ الشيخ ابن باز - رحمه الله - وأغلظ له في القول إبان توليه قضاء الخرج (1357 - 1371هـ)، واشتهر ذلك الأمر في البلد، وما مضى وقت يسير إلا وخرج الشيخ إلى الحجِّ على عادته، فأراد الله في هذه الفترة أن يختار وديعته، فمات ذلك الرجل أثناء سفر الشيخ إلى الحج ! فلمَّا قُدِّم الرجل ليُصلَّى عليه أبى إمام الجماعة أن يصلي عليه، وقال: هذا الذي سبَّ الشيخ وأغلظ له القول فلا أُصلِّي عليه! فتقدَّم أحد الناس فصلَّى عليه.
فلمَّا رجع الشيخ من الحج وسمع بالخبر عاتب الإمام جدًّا على فعله، ولم يرتض ما صنع… ثم إنه سأل عن قبر الرجل، فأتاه فصلَّى عليه في المقبرة ثم دعا له. أمور تساعدك على سلامة الصدر، وهي من مظاهر سماحة النفس
1 - أن تقرّب من يعصيك.
2 - أن تكرم من يؤذيك.
3 - أنْ تعتذر إلى من يجني عليك.
4 - ترك الخصومة.
5 - التغافل عن الزلة.
6 - نسيان الأذية. استصحب الرِّفق واللين من غير مداهنة ولا مجاملة
إنّ حقاً على المسلمين جميعاً أن يستصحبوا الرفق واللين في الأمر كله من غير مداهنة ولا مجاملة، ومن غير غمط ولا ظلم.
إنّ على الأب الشفيق والأم الرؤوم، وإنّ على الأزواج وأصحاب المسئوليات أن يرفقوا بمن تحت أيديهم، لا يأخذون إلا بحق، ولا يدفعون إلا بالحسنى، ولا يأمرون إلا بما يُستطاع : { لا يُكلِّفُ الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسرٍ يسرا }.
ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، ولا نزع من شيءٍ إلا شانه، وإنّ الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، بذلك صحّت الأخبار عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلّم . اقبل الميسور من أخلاق الناس
إنّ العقل والحكمة والمعرفة بطبائع الأمور تقتضي تقبُّل الميسور من أخلاق الناس، والرضا بالظاهر من أحوالهم، وعدم التقصّي على سرائرهم أو تتبع دخائلهم، كما تقتضي قبول أعذارهم والغض عن هفواتهم، وحملهم على السلامة وحسن النية. إذا وقعت هفوة أو حصلت زلة فليس من الأدب وليس من الخلق الحسن المسارعة إلى هتكها والتعجل في كشفها فضلاً عن التحدث بها وإفشائها.
بل لقد قيل : اجتهدوا في سترة العصاة فإنّ ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام.
كيف يسوغ لمسلم أن يتشاغل بالبحث عن العيوب ورجم الناس بها، بل لعله قد يُخْفي ما يعلم من صالح القول والعمل.
هل وظيفة المسلم أن يلوك أخطاء الناس ويتتبّع عثراتهم، ويعمى أن يرى حسناتهم وكأنه لا يعرف ولا يرى إلا كفة السيئات. أليس في عيوبه ما يشغله عن عيوب الناس؟! أحبَّ الخير لإخوانك المسلمين
إنَّ المسلم الناصح شفوق بإخوانه، رفيق بهم، يحب لهم الخير كما يحبه لنفسه، ويجتهد لهم في النصح كما يجتهد لنفسه …. أما الفظ القاسي، صاحب القلب الغليظ، فقد قضت سنة الله نفرة الناس منه، فلا تقبل منه دعوة، ولا يسمع منه توجيه، ولا يرتاح له جليس : ( فبما رحمةٍ من اللهِ لنتَ لهم ولو كنتَ فظَّاً غليظَ القلبِ لانفضُّوا مِن حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم(.
وعلى قدر ما يمسك الإنسان نفسه ويكظم غيظه ويملك لسانه، تَعْظُم منزلته عند الله وعند الناس. وعلى قدر ما يتجاوز عن الهفوات ويقيل من العثرات، تدوم مودّته، ويأنس الناس به. إنّكم لن تَسَعوا الناس بأموالكم ولكن تسعوهم بأخلاقكم، يسعهم منكم بسط المحيّا وطلاقة الوجه. لا ترى لنفسك فضلاً على غيرك
إنّ المخلص في المودّة، الصادق في المحبة، لا يرى لنفسه فضلاً على غيره، ولا يكون عوناً للشيطان على صاحبه.
رُوي أنّ أبا الدرداء رضي الله عنه مرَّ على رجل قد أصاب ذنباً والناس يسبّونه فقال : أرأيتم لو وجدتموه في قليب - أي في بئر - ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا : بلى. قال : فلا تسبوا أخاكم واحمدوا الله الذي عافاكم. اجعل - يا رعاك الله - هذه الآية نصْبَ عينيك
( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنَّه وليٌ حميم. وما يُلقَّاها إلا الذين صبروا وما يُلقَّاها إلا ذو حظٍّ عظيم. وإمَّا ينزغنَّك من الشيطانِ نَزْغٌ فاسْتعذْ بالله إنَّه هو السَّميع العليم ). أمور تتنافى مع سلامة الصُّدر، وهي من لوازم الحقد، ومظاهر الحسد عياذا بالله، والواجب علينا اجتنابها
1- سوء الظن.
2 - تتبع العورات.
3 - الهمز واللمز.
4 - تعيير الناس وشيوع السباب.
5 - التعريض أو التصريح بالمعايب النفسية والبدنية.
6 - الغيبة والنميمة.
7 - تمني زوال النعمة من أخيه.
وكلُّ ذلك - أيها الكرام - يدلُّ على خبث الطويّة، ودناءة الهمَّة.