logo

أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم في منتديات كويك لووك ، لكي تتمكن من المشاركة ومشاهدة جميع أقسام المنتدى وكافة الميزات ، يجب عليك إنشاء حساب جديد بالتسجيل بالضغط هنا أو تسجيل الدخول اضغط هنا إذا كنت عضواً .





25-12-2011 08:38 مساءً
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 2008-08-27
رقم العضوية : 6
المشاركات : 9822
الدولة : EG
الجنس :
الدعوات : 29
قوة السمعة : 1561
التعليم : جامعي
الهواية : طهي

يوم غائم في البر الغربي


يوم غائم في البر الغربي
الفصل الاول

ظهرت حافة النهر أخيرا، متعرجة ومليئة بأعواد البوص والأشواك الجارحة، أصبح الهواء باردا ورطبا، وأخذت أسراب من الطيور البيضاء تهيم فى دوائر متصلة، لكزت الأم الحمار الذى تركبه لتوقفه عن السير، تأملت موجات النهر الرمادية الداكنة، قالت:
لا أحد هنا، لقد أرشدنا إلى المكان الخطأ.

تقدمت عائشة بحمارها قليلا، لمحت القارب المربوط إلى جذع شجرة وهو يعلو وينخفض مع الموج، لم تقل شيئا، قطعت رحلة طويلة دون أن تعرف سببها، ظل الحمار يخب ويتعثر فى أحجار الطريق حتى آلمتها مؤخرتها، شاهدت بضع حمائم مستكينة من البرد فى جوف إحدى الأشجار، تمنت لو أنها تجد مثلها مخبأ بعيدا عن وجه أمها الجامد.

هبطت الأم من على الحمار، انحدرت مع ضفة النهر، اختفت خلف أعواد البوص، سمعت «عائشة» صوت لهاث، أحست بالخوف، هل يمكن أن تتبعها الذئاب من نجعها البعيد إلى هذا المكان؟ لم تستطع أن تألفها رغم كثرة ما رأتها وهى تحوم حولها، أو حتى وهى تتسكع طوال الليل تحت نافذتها، كانت أشبه بكلاب ضخمة، غبراء اللون، ألسنتها متدلية ولا تكف عن اللهاث، كيف يمكن أن تألف رؤية مخلوقات بهذا الشكل؟

ظهرت الأم من بين الغاب، أشارت إليها أن تهبط، ربطت عائشة الحمارين معا إلى إحدى الأشجار وسارت خلفها، دائما تسير خلفها، تنحدر فى ممر ضيق بمحاذاة الماء وهى تحاذر أن تجرحها الأشواك، ظهرت «العشة» المبنية من القش والطين، سمعت عائشة صوت «كركرة الجوزة» وشمت رائحة دخان «المعسل» صاحت الأم:
يا مراكبى.

لم يرد عليها أحد، تقدمت بثبات حتى وقفت أمام فتحة العشة، كان داخلها رجل نحيل داكن الجلد، يجلس مسترخيا و«الجوزة» فى يده وأمامه جذوات مشتعلة من الحطب، كان واضحا أنه لم يجب عليهما متعمدا، لم يكن يريد من يعكر عليه مزاجه أو يخرجه من مخبئه فى هذا الجو البارد، توقف عن شفط الدخان، نظر إليهما فى صمت، قالت الأم:
ــ نريد أن نعبر النهر.

نظر إليهما مستغربا، أطال النظر قليلا إلى وجه عائشة، هاله اتساع عينيها، والبريق الأخاذ الذى يشع منهما، قال:
من الجنون أن نحاول ركوب النهر وهو بهذا الغضب، عواد فى الغد.

قالت الأم فى إصرار:
لابد أن نعبر اليوم، لقد جئنا من سفر بعيد.
النهر غدار يا ست، وفى جو مثل هذا تستيقظ كل أرواح الغرقى وتخرج من شقوق القاع، لا أحد يعرف ماذا يمكن أن يحدث؟
ارتعدت عائشة، تخيلت هذه الأرواح وهى تخرج باردة وشاحبة وحزينة وتحيط بهما، قالت الأم:
لو كنت بارعا كما يقولون فلن تأبه بهذه المخاوف، لن تعطيك هذه «الجوزة» سوى الدخان، ولكنى سأعطيك ريالا سلطانيا.

ولكن «المراكبى» كان يفكر بشكل مختلف، لو أنهما انصرفتا الآن فستختفى هذه الصبية من أمامه سريعا، ولن يتأمل هاتين العينين كما ينبغى، ولن يستمتع برؤية هذا الوجه على راحته، أمسكت المرأة بكم العباءة التى كانت تغطى جسدها، فكت عقدة فى طرفها وأخرجت من طياتها ريالا من الفضة، نظيفا ولامعا من الصعب أن تعثر على مثيل له وسط هذه النجوع المنعزلة، كانت معظم العملات يغطيها الصدأ والأوساخ، لا يعرف أحد إن كانت قد ضربت فى عهد سلطان هذه الأيام أو فى عصر محمد على الكبير، مد «المراكبى» أنامله مسحورا بالضوء الذى يشع منه، لم ير من قبل سوى القطع النحاسية الصغيرة، وفى أغلب الأحيان لم يكن يراها، لم يتعد أجره بضع حبات من الطماطم أو الخيار، أو بيضة واحدة، وضع «الجوزة» جانبا، وزاد من الحطب حتى تبقى النار مشتعلة، ونهض واقفا، بدا طويلا، عريض الكتفين رغم نحافته، سار نحو الشجرة وجذب الحبل، أصبح القارب أكثر قربا وثباتا إلى الشاطئ، التفتت الأم إلى عائشة وقالت لها فى حزم:
ــ اصعدى!

انكمشت عائشة وهى ترتعد من الهواء البارد، انتهز «المراكبى» الفرصة ومد يده وقبض على يدها، كانت باردة وصغيرة ويده خشنة وطويلة الأصابع، رفعت قدميها وخطت إلى القارب المتأرجح، التفت ناحية الأم ولكنها لم تمد يدها نحوه، أمسك بحافة القارب حتى استطاعت أن تصعد هى أيضا، فك الحبل، دفع القارب قليلا ثم قفز فوقه والماء يقطر من سرواله الواسع، أخذ القارب يعلو ويهبط، وزاد هذا من فزع عائشة، مالت على حافة القارب وهى توشك على التقيؤ، نظر إليها «المراكبى» وفى إشفاق وهو يقول:
لا تنظرى إلى الماء، انظرى للشاطئ الآخر، سيشعرك هذا بالأمان. رفعت عائشة رأسها، الشاطئ الآخر مازال بعيدا، تظهر عليه قمة الجبل الغربى، وقد أخفى الضباب كثيرا من تضاريسه القاسية، استدارت عائشة نحو «المراكبى» وعلى وجهها ابتسامة حزينة وممتنة، فكر فى نفسه: يا ربى، كيف خلقت هذا الجمال، من بطن هذه المرأة المتجهمة؟ ترى ما عمرها؟ اثنا عشر.. ثلاثة عشر.. أقل أم أكثر؟ كان جسدها يستعد لاستقبال سنوات النضج والتفتح، ونتوءا صدرها بدآ فى الظهور، تمنى «المراكبى» فى نفسه أن تسقط الأم فى الماء وأن يظل هو يجدف مع هذه الصبية حتى منبع النهر.

ومن بعيد تناهى صوت عواء غريب، قادم من الضفة الأخرى، كان هو الذئب نفسه الذى تبعها عبر هذه المسافة يقف على ضفة النهر، قال المراكبى مستغربا:





ــ لا ذئاب فى هذه الناحية، وهى لا تظهر فى النهار هكذا، من حظنا أن النهر بينه وبيننا.
اهتز القارب فجأة، وبدأت الموجات فى دفعه للدوران حول نفسه، تشبث «المراكبى» بالمجداف، وظهر على سطح الماء دوامات متتابعة، قال «المراكبى»:
ــ تشبثا بحافة القارب، كان يجب تجنب النهر فى لحظات غضبه.. لقد حذرتكما!

أصبح القارب خفيفا تلعب به الأمواج، والتقت عينا عائشة بعينى الذئب، رأت فمه المفتوح ولسانه المتدلى، وظل «المراكبى» يضرب الأمواج، يحاول أن يبعد القارب عن مسار الدوامات، صاحت الأم مرعوبة:
سوف تقتلنا.
ودفع المجداف مرة أخرى، كأنه يحاول أن يبعد الأرواح التى تدور مع الموجات، وحافظ القارب على توازنه وفق معجزة ما، دفعته موجة مفاجئة إلى مخاضة من نباتات ورد النيل، تشابكت حوله الجذور وحدت من حركته، غرس «المراكبى» مجدافه فيها وهو يلهث، قال لهما:
يمكنكما النزول هنا.
قالت الأم فى استنكار: تريد أن تغرقنا؟!
الأرض أقرب لكما مما تتصوران، لو بقينا فى القارب فسوف تتسع الدوامة وتبتلعنا جميعا.

نهضت عائشة، كانت خائفة من النهر ومن تجهم أمها، قفزت للماء بحركة مفاجئة، وجدت نفسها تقف على أرض رخوة وزلقة، أزاحت الأوراق المفلطحة وبدأت تشق طريقها للشاطئ سمعت صوت أمها وهى تقفز خلفها، ظلت تنزع قدميها من الطين لتضعها فيه مرة أخرى، قبضت على بعض الأغصان المتدلية لشجرة صفصاف عتيقة، نصفها فى الماء والآخر فى اليابسة، هى التى قادتها إلى الشاطئ، وتبعتها الأم، وظل «المراكبى» واقفا خائفا ممسكا بالمجداف، هتفت الأم فيه بصوت عال:
ستبقى هنا بانتظار عودتنا.

قال «المراكبى»: وإلى أين أذهب؟ فى النهر والدوامات وعلى الشاطئ الآخر الذئاب.
التفتت الأم إلى عائشة، كانت ترتجف، قالت لها بنفس الحزم:
ــ فلنواصل السير، وسيقوم الهواء بتجفيف ثيابنا.
كان الجبل قريبا من الشاطئ، سارتا وسط درب صخرى موحش، استطالت الرحلة حتى لم تعد تفضى إلى مكان، اصطكت أسنان عائشة، وحين ضمت ذراعيها حول نفسها اكتشفت أن البروز الذى فى صدرها يؤلمها أيضا، سبقتها الأم وأخذت تحت السير أمامها، وتعجبت عائشة: من أين جاءت بكل هذه القوة؟! وصلا إلى ساحة المقابر المقامة فى حضن الجبل، خليط من شواهد القبور والصلبان والأعمدة المهشمة التيجان، فتحات غائزة تؤدى إلى سراديب خفية داخل الجبل، كانت الريح تمرق من شق الجبل، وتحدث صوتا كالعويل، طافت الأم بعينيها تبحث عن شىء ضائع،

وظهرت عدة بيوت ضيقة محفورة فى الصخر، توقفت أخيرا أمام بيت صغير عليه قبة باهتة الطلاء، دقت على الباب الخشبى بكف قوية، كأنها توقظ أحد الموتى، بعد فترة طويلة فتح الباب، ظهر رجل عجوز محنى القامة، يرفع رأسه بصعوبة كأنه غير قادر على مواجهة ضوء النهار، كان السناج الأسود عالقا بلحيته وثيابه، قال مستغربا:
الجو بارد من أجل زيارة كهذه!.. ادخلا..

ترددت عائشة، أحست كأنها ستدخل إلى جوف مقبرة، ولكن الأم دفعتها من جديد، دخلت وسط عتمة خانقة، وسط عبق أدخنة الحطب والروث المحترق، جلستا تحت القبة التى كان يتسلل منها شعاع ضئيل من الضوء، نظر الرجل إلى ثيابهما المبللة، والتراب العالق بهما، قال:
أنتما قادمتان من سفر بعيد، هل الأمر يستحق؟..
قالت الأم وهى تشير إلى عائشة:
أريدك أن ترسم وشما على ذراعها.

قال الرجل: ما دام الأمر كذلك، دعينى أشعل بعض الضوء.
نهض ببطء، أمسك بعلبة من الصفيح يطل من قمتها طرف ذبالة محترقة، أشعلها بواسطة عود من الحطب، لم تضىء المكان كثيرا ولكنها بعثت فيه الحياة، قال:
لماذا تجيئان إلى باطن الجبل من أجل وشم صغير كان يمكن دقه ببساطة فى سوق الثلاثاء؟!
قالت الأم فى اقتضاب:
قالوا لنا إنك الأفضل، وعليك أن تثبت ذلك، ارفعى ذراعك يا..
وعضت على شفتيها قبل أن تنطق اسمها، وظلت عائشة ترتجف، ولكنها أزاحت الشال من على رأسها وكشفت عن ذراعها، كانت بيضاء بضة، لم تدمغها الشمس، قال الرجل:
وماذا تريدين أن تضعى على هذا الذراع الصغير؟

قالت الأم: ضع علامة الصليب المقدس، واكتب تحتها الاسم «مارى».
شهقت عائشة ونظرت لها بعينين واسعتين مليئتين بالذعر، لم تبال الأم بها، واصلت إعطاء تعليماتها للوشام:
أريده كبيرا وواضحا، ولكنه باهت، كأنه كان مرسوما على جلدها منذ سنوات، حقيقيا كأنها قد ولدت به..
هذا يتطلب كثيرا من الدقة، ولكنك جئت للرجل المناسب، من أين أنتما؟
قالت الأم فى سرعة: من «البياضة»!

كانت تكذب، ولابد أن الرجل قد أدرك ذلك، ظل يفحص ذراع عائشة، ليبحث عن أنسب موضع للوشم وهو يهمهم:
أنا أعرف أهل «البياضة» جميعا، أنا الذى رسمت كل صلبان التعميد على جلودهم، وأعرف أيضا أهل «البدارى» و«دير الجبراوى» وحتى «شطب»، من ملامحكما أستطيع القول إنكما من «بنى عدى» أو «بنى خلف» أليس كذلك؟!

حدقت عائشة فى عينى الرجل فوجدتهما تشبهان عينى الذئب المترصد على الشاطئ، تحاول اختراق العباءة التى تغطى جسدها، قالت الأم:
ــ أنت تكثر من الأسئلة أيها الوشام، ابدأ عملك وها هو ذا أجرك.

مرة أخرى أخرجت له قطعة الفضة السحرية، وتعجبت عائشة: من أين أحضرت أمها كل هذه القطع البراقة؟! عض عليها الرجل بأسنانه ليتأكد أنها ليست مزيفة، وضعها فى جيبه بعناية، أحضر لفافة فيها أدواته من أحد الأركان، قطع من المعدن يغلب عليها السواد، أطرافها المسنونة هى فقط التى تبرق، فتح علبة صغيرة فيها مادة داكنة نفاذة الرائحة، خليط من التوتياء ومساحيق مستخرجة من معادن الجبل، كان وحده يعرف سر خلطتها، أمسك ذراع عائشة فى إحكام، التفتت إلى أمها بعينين ممتلئتين بالدموع، وهتفت للمرة الأولى منذ الصباح:
يا أمى...!!

ولكن الأم نظرت إليها بوجه جامد، أحست عائشة بسن الإبرة وهو يخز جلدها، لم تصح ولم تبك، ولكنها كانت ترجو أن تخفف قبضته من عليها قليلا، قال الرجل:
حاولى الاسترخاء، كلما استرخيت قل إحساسك بالألم.

حولت عائشة وجهها بعيدا عن رائحة أنفاسه العطنة، تأملت الجدران المكونة من عروق الصخر، والسناج الذى يغطيها، زاد الألم فحاولت أن تنزع ذراعها، ولكن أصابعه ظلت قابضة عليها، اشتعلت نيران الألم فى جسدها كله فأخذت تبكى فى صوت خافت، ولم يتوقف الوشام، ظل يواصل قتل الخلايا بطرف مخرزه ويضع بدلا منها مزيج التوتياء ومعادن الجبل، احمر ذراعها، وبدأ اللون الأزرق يتسلل وسط تلافيف الخلايا، تذكرت عائشة فجأة لحظة الألم التى شعرت بها وأبوها يحدق فيها بعينيه الجامدتين، شهقت وتجمدت فى مكانها، فطن الرجال متأخرين إلى وجودها فى غرفة «الغسل» قبل أن يجروها بعيدا، كان سن الوشام المدبب قد أيقظ كل مكامن الألم فى داخلها، رحيل الأب، افتقاد حضن الأم، دخول رجل آخر إلى فراشها، سرى نوع من الشلل فى ذراعها وكتفها وجانبها الأيسر كله.

أخيرا ترك الوشام ذراعها، ولكن الألم ظل متواصلا، قال للأم:
ــ تأملى بنفسك، صليب رائع، فى أطرافه ثلاثة صلبان أخرى، سيتورم قليلا، ولكن بعد أن يزول الورم سيبقى الصليب مدى الحياة.

قالت الأم فى إيجاز: حان وقت الانصراف
نهضت عائشة خائرة القوى، أوشكت أن تسقط على الأرض، استندت إلى الحائط، نظر إليها الرجل فى إشفاق قال:
إنها فى حاجة إلى قليل من الراحة.
لا وقت لدينا.

عاد الهواء البارد يلفح وجهيهما، سارتا ببطء، كانت الأم تسندها فى صلابة. لم يكن هناك وقت للسقوط، ولا فرصة للراحة، عبرتا الصخور والفتحات الغائرة، بدت المياه الرمادية مرة أخرى، ولم تشعر عائشة بأى شىء وهى تسقط على الأرض.

هرع «المراكبى» نحوها، كان قد نجح فى جر القارب وربطه فى شجرة صفصاف، كانت الأم تلطم خدها بجوار الجسد المسجى، انحنى «المراكبى» دون استئذان رفع الجسد الهش بين ذراعيه، واتجه للقارب:
هذا يوم قاس، قاس علينا جميعا.

تأمل وجهها الشاحب، كأنها على حافة الموت، حملها باعتزاز، كانت الظروف قد أتاحت له فرصة أكثر مما كان يحلم، خاض الماء، وصعد القارب، ووضع جسدها المسجى، والتفت إلى الأم بنظرة لائمة، وجد الدموع تغطى وجهها، أخذ يجدف فى سرعة، من حسن الحظ أن الذئب كان قد انصرف، وخفت دوامات الماء، ظل يجدف فى حماسة، كان يدرك أن إنقاذها يعتمد على الوصول السريع إلى حمى العشة الدافئة التى يقيم فيها هبط المراكبى وحمل عائشة مرة أخرى وخاص فى الماء حتى وصل إلى باب العشة، وكان الحماران ينتظران فى صبر، ولم يكن حولهما ما يؤكل إلا الأشواك والعشب البرى، راقبته الأم فى صمت دون أن تجرؤ على الاعتراض، راقبته وهو يسجيها بجانب النار، زاد من إشعال الحطب، وحرص على دفع الدخان بعيدا، وعندما رأى انعكاس لهب النار على وجنتيها الشاحبتين، ابتسم فى رضا، وخرج من العشة وهو يقول للأم:
لن تستطيعا الذهاب بعيدا يا سيدتى وهى فى هذه الحالة.
قالت الأم: كنت أود أن تكمل طريقنا إلى أسيوط..
قال «المراكبى»: أين نحن من أسيوط؟ لقد أخطأت التقدير، محطة القطار بعيدة عن هنا، والحمير لن تتحمل هذه الرحلة
توقيع :رحمة
quicklook4u-bffcd6e0bc
ربما يعجبك هذا أيضا


look/images/icons/i1.gif رواية يوم غائم في البر الغربي وهى قصة مسلسل وادى الملوك
  25-12-2011 08:42 مساءً   [1]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 2008-08-27
رقم العضوية : 6
المشاركات : 9822
الدولة : EG
الجنس :
الدعوات : 29
قوة السمعة : 1561
التعليم : جامعي
الهواية : طهي
توقفا عن الكلام لبرهة وبدأت الأم تعيد حساباتها، تركها الرجل وأخذ يدور حول الشاطئ يبحث عن بعض الأغصان الجافة، وبعض العشب الصالح لإطعام الحمارين، تحرك فى صمت متجنبا نظرات الأم التى تحدق فى الفراغ، كانت «العشة» تحمل رائحة رجل وحيد، كومة من الثياب المتسخة، ووعاء فخارى فيه بقايا قطع من الخبز، وفراش من القش كانت عائشة تنام عليه، وضع المزيد من الحطب، التفت للأم قائلا:
هناك قطار القصب.

أفاقت الأم فى شرودها وانتبهت له: أى قطار؟
موقفه قريب من هنا، إنه يسير وسط حقول القصب حتى «الحوامدية»، وهو يتوقف فى كل فترة ليجمع المزيد من عيدان القصب، المشكلة أنه قطار بطىء وحمولته خشنة وجارحة، وغير مسموح بالركوب فيه.

وكيف أستطيع الركوب فيه إذن؟
أنت سيدة الإقناع، يمكنك التفاهم مع الخفراء، ومع السائق، المهم أن تتحملا مشقة الرحلة.
نظرت الأم إلى جسد عائشة المسجى، كانت ماتزال مغمضة العينين، ولكن الزرقة انسحبت من خدها وحل بدلا منها حمرة باهتة، كانت الحياة تدب فيها بسكون، قال «المراكبى»:
لن يأتى القطار قبل الصباح، تأخر الوقت وأصبح الجو سيئا، يمكنكما البقاء داخل العشة، وسأبيت فى الخارج.

نظرت إليه الأم فى استغراب، لم تتوقع تلك الإيماءة من الكرم المفاجئ، نظرت نحوه بمكر فلاحى:
ليس معى المزيد من الفضة.

لم يرد عليها، مد يده تحت الفراش الذى تنام عليه عائشة وأخرج قرطاسا صغيرا من الشاى وآخر من السكر، كأنه يخرج كنزا ثمينا، وبدأ يدس «كوز الصفيح» المسود فى النار وهو يقول لها:
ــ ما أخذته منك يا سيدتى يكفى ويزيد، أنتما الآن ضيفتاى.

تأوهت عائشة وفتحت عينيها لبرهة، حدقت فيهما باستغراب، ثم عاودت إغلاق عينيها مرة أخرى، ولكنها كانت لمحة مبشرة، أعادت الطمأنينة إلى قلب الأم، دق قلب «المراكبى» وهو يرى هذا المس من السحر، ناول الأم كوبا من الشاى الثقيل، وأعد لنفسه آخر، وحاولت الأم أن تهز عائشة لتشاركهما ولكنها أدارت ظهرها لها، أخذ الاثنان يرشفان الشاى فى صمت، ثم قال «المراكبى» وهو يحاول أن يسلك صوته:
من الواضح أنكما من كرام الناس، ما سبب هذه الرحلة الشاقة؟
لا أعتقد أنكما هاربتان من شىء.

قالت الأم وهى تتنهد: الأمر معقد، أكثر من أن أشرحه لغريب عابر.
ربما كان من الأفضل أن تخففى عن صدرك مع غريب عابر، ولا يوجد أفضل من «المراكبى» الذى يعيش دائما بين شاطئين، لا أرض تخصه، ولا أهل يأوى إليهم. الماء هو موطنى، والسمك هو أهلى.

قالت الأم وهى تتنهد:
كل ما أستطيع أن أقوله إننى أبحث عن مكان آمن، حياة جديدة..
لم تقل له عن الترع والرياحات التى عبرتها هى و«عائشة»، ولا النجوع المنسية التى تجنبتاها، ولا شقوق الجبال التى مرقتا منها، لم تذكر له عن حليها التى باعتها لتوفر تكلفة هذه الرحلة، فقط وضعت كوب الشاى الفارغ وأسندت ظهرها لجدار العشة وأغمضت عينيها، ولاحظ «المراكبى» أنه رغم الغضون التى تملأ الوجه والجلد المدبوغ الذى يغطى الجلد فإن الأم والابنة متشابهتان إلى أبعد مدى، نهض فى بطء كما وعد وجلس خارج العشة، وتأمل أضواء بقايا النهار وهى تهبط وتذوب فى مياه النهر.

الليل فى مصر هو الأشد ظلمة من أى مكان آخر، خصوصا عندما يغيب القمر الشاحب، فالظلمة دائمة والضوء طارئ، تراكمت ذراته الداكنة على ضفاف الوادى عبر آلاف السنين، من حرائق أعواد الغاب لإبعاد التماسيح وأفراس النهر الجائعة، ومن قمائن الطوب التى تحرق الطمى، ومن توهج الفخار لصنع آنية الطعام والدفن، وأبخرة الشعير المتصاعدة عند تخمير الجعة، وشذرات الصخور التى يتم تقطيعها لبناء البيوت وسراديب المقابر، من ركام الجير الحى، والصهد المتصاعد منها على مدى الليل والنهار، ومن اشتعال سعف النخل والقش بحثا عن الدفء وطهى الطعام، وحرائق غيطان القصب لتتشرب الأرض ببقايا رماد الخصوبة، وإشعال البخور فى المعبد عند تقديم الأضاحى، وأدخنة المر والعطر واللبان، والمشاعل التى كان بناة الأهرام يشعلونها طوال الليل على مدى عشرين عاما، كل هذا صبغ الأرض بلون السواد، وجعل الليل كثيفا، حتى إن ريح الخماسين لا تقدر على إزاحته.

جلس «المراكبى» ضئيلا أمام رياح النهر الباردة، تأمل السحب الداكنة التى أخفت خلفها القمر والنجوم، استند إلى جذع نخلة، أحس بأليافها الخشنة وهى تغز ظهره، هناك شىء ما قد تغير، أحس فجأة بالوحدة والجوع كما لم يحس بهما من قبل، ضياع أيام العمر، وبؤس«العشة» التى يسكنها، وفقر الطعام الذى يتناوله، كأن وجود هذه الفتاة العديمة الحيلة، مجرد وجودها، قد غير كل شىء من حوله، تحسس القطعة الفضية فى جيبه، كانت هى تميمته، لن ينفقها أبدا لأنها ستذكره دوما بوجهها الصبوح، ومن المدهش أن هذه الخواطر ساعدته على احتمال البرد حتى الصباح.

كانت عائشة أول من استيقظ، رأت الأم النائمة، والنار الخامدة، أحست بالألم فى ذراعها فتذكرت ما حدث بالأمس، نهضت وهى تترنح من الجوع، خرجت من العشة فرأت «المراكبى» وهو مكوم عند جذع النخلة، أحس بوجودها ففتح عينيه، وجدها واقفة تتأمله فى صمت، بدا وجهها شاحبا وجميلا وحزينا، لم تكن تدرى أنه حملها على ذراعيه، وأنه انتهز الفرصة وضمها إلى صدره قليلا، خفية عن عين الأم، قال لها:
هل أنت بخير؟ هل نمت جيدا؟
أومأت برأسها وأعطته ابتسامة صغيرة، خرجت الأم من «العشة» متعجلة وهى تقول له:
فى أى اتجاه يوجد قطار القصب؟ هل هو بعيد؟
أشار «المراكبى» إلى الاتجاه المطلوب وهو يشعر بالخيبة، قال:
إنه ليس بعيدا عن هنا، مسافة بسيطة.

قالت الأم وهى تشير إلى الحمارين:
سأترك هذين الحمارين أمانة عندك، وسأرسل لك مرسالا لاستعادتهما.
على عينى يا ست.
أخذت عائشة من يدها، وسارتا مبتعدتين، ولوح «المراكبى» بيده فى حزن، ظل الهواء يحرك عباءتيهما السوداوين حتى اختفتا عن أنظاره.

لم تكن غيطان القصب بعيدة عن شاطئ النهر، كانت جرداء، تم قطع الأعواد المسكورة، وظلت جذورها متشبثة بالأرض، فى انتظار أن يتم إحراقها لتتحول إلى رماد أسود مشبع بالأملاح، ويشهد الرماد معجزة صغيرة حين تبرز من بين طبقاته رءوس خضراء جديدة، القصب الذى تم جزه كان مربوطا فى حزم متفرقة، كل واحدة مربوطة بأوراق القصب الطويلة الخشنة، كان يتم جدلها قبل أن تجف، جلستا وسط الحزم المتراصة، كان المكان خاليا من الناس، والقضبان الحديدية النحيفة تسير متعرجة عبر الحقل وتختفى عند حافة الأفق، ولم يستيقظ الخفراء بعد، وكانت هناك أشعة ضعيفة من الشمس وبعض من الدفء، قالت عائشة:
ــ أنا جائعة يا أمى، وأحس بالدوار.

شدت الأم أحد أعواد القصب ونزعت الأوراق التى تحيط به فى قوة، وكسرته إلى عقل صغيرة، لم تبال بالجروح الصغيرة التى أحست بها فى يدها، واستخلصت اللب الناصع البياض تقدمه لعائشة التى همست:
ماذا لو رأونا؟!
قالت الأم وهى تنزع اللحاء بأسنانها: سأتصرف معهم.

بدأت «عائشة» تمص القصب، أحست بالعصير المسكر فى حلقها، انتفض جسدها كأن مددا من الحياة ينساب داخل مسامها، بدأت الحركة تدب فى المكان، أمسكت الأم بيدها واختفتا خلف دغل صغير، ظهر بعض من عمال التراحيل وهم يتصايحون بعضهم على بعض، أخذوا يحملون حزم القصب ويضعونها قريبة من القضبان، ظلتا تراقبانهم فى صمت، وأخيرا دوى صوت صفارة حادة، ارتجت الأرض الساكنة، وحمل الهواء رائحة الدخان، ظهر القطار، لم يكن كبيرا كما اعتقدت «عائشة»، تتقدمه قاطرة سوداء اللون تتنفس كمية كبيرة من الدخان تفوق حجمها، ويجر خلفه عددا من العربات محملة كلها بالقصب إلا العربتين الأخيرتين، توقف القطار، وقفز السائل منه وأخذ يتحدث مع العمال فى صوت عال، بدأت عملية التحميل، كانت «عائشة» تتأمل كل هذا وهى مفزعة، هل يمكن أن يكون لها مكان وسط هذه الحزم الجارحة؟

بدأ المكان يخلو تدريجيا من حزم القصب، أنهى السائق حواره الصارخ مع العمال وبدأ يستعد للعودة إلى القاطرة، أطلق صفارة تحذير حتى يبتعد الجميع عن القضبان، بدأت العجلات تزأر فوق القضبان الصدئة، نظرت «عائشة» إلى أمها فى يأس، ولكن الأم كانت على استعدادا لأى نوع من المجازفة، جذبتها من يدها وأخذتا تعدوان معا نحو العربة الأخيرة، نظر إليهما العمال فى دهشة، صاح واحد منهما فى دهشة:
ــ ماذا تفعلان؟! ممنوع ركوب هذا القطار.

وقف بعض الرجال فى طريقهما، فردوا أذرعتهم ليقطعوا عليهم الطريق، فى هذه اللحظة ظهر الذئب، لا يدرى أحد من أين جاء، ولكنه أخذ يعدو بين سيقان الرجال كأنه هو أيضا يريد اللحاق بالقطار، ابتعد الرجال فى فزع، حتى الذين كانوا يسدون الطريق أخذوا يتقافزون مبتعدين، وزادت عائشة وأمها من سرعتهما، أمسكتا بالعربة الأخيرة، قفزت الأم أولا، ثم مدت يدها وانتزعت «عائشة» من الأرض، ضربتهما الأوراق الخشنة وملأت وجهيهما بالخدوش، ترك الذئب الرجال وأخذ يعدو بجانب القطار، ظل يواصل العدو حتى أصبح بجوار السائق، نظر إليه السائق فى فزع، وزاد من سرعة القطار، توقف الذئب وقد أنهى مهمته، وظل واقفا مفتوح الفم، متدلى اللسان، حتى بدت «عائشة» وهى تطل عليه وتلتقى بعينيه الحزينتين.

لم يتوقف السائق، لم تكن هناك حمولات إضافية من القصب، وظلت العربة الأخيرة تقعقع وهى ترتفع وتنخفض بهما، لم تكن الرحلة مريحة، وكان فزعهما يزداد كلما عبر القطار إحدى الترع أو الرياحات، لحظتها كانتا تشعران بأنهما معلقتان بالفراغ، لا توجد أى معالم تحيط بهما، كان فزع عائشة يزداد وهى تراقب المصارف المالحة أسفل القطار، وتتمنى ألا تموت مختنقة فى أى منها.

بعد سير طويل، بدا كأن النيل يتسع والجبل يقترب، وأصبح القطار يسير وسط حيز ضيق من الأرض المزروعة، زادت سرعته وهو ينحدر إلى أسفل، ظهرت البيوت الطينية والمآذن الحجرية من بعيد، وتنفست «عائشة» الصعداء أخيرا.
فى أسيوط يضيق الوادى، ويقترب الجبل ويمتلئ بالمطاريد، وتتشكل الصخور فتصبح أشبه بعمود فقرى، يربط الشمال بالجنوب، لذا فليس غريبا أن تبدأ فى أسيوط أولى محاولات الوحدة بينهما، وتغرس فيها أولى بذور الفتنة، مثلما انطمرت المومياوات، وقطع الفخار، وبقايا القلعة التى بناها الملك مينا.

لم يدخل القطار أسيوط، توقف فى ساحة واسعة خارجها، تتجمع فيها كل حزم القصب القادمة من مختلف مدن الصعيد، وتنتظر لتأتى قاطرة أكثر قوة، تحملها كلها إلى مصنع السكر فى الحوامدية، وسط زحام التدافع والتحميل، استطاعت الأم وعائشة أن تتسللا مبتعدتين، وظل السائق المذعور جالسا فى مكانه خوفا من أن يظهر له الذئب مرة أخرى.

سارت الأم بثقة فى شوارع أسيوط، هذه هى المرة الأولى التى ترى فيها «عائشة» مدينة بهذا الاتساع وكل هذه الحركة، وكانت الأم أكثر خبرة ودراية بالشوارع، تعرف المكان الذى تقصده وتتجه إليه من دون تردد، رغم التعب والإنهاك بدا أنها تسابق الزمن، سارت وهى قابضة على ذراع «عائشة» كأنها تخشى أن تضيع منها وسط زحام المارة والدكاكين والطباب والشحاذين، كانت الشوارع ترابية، غير مرصوفة، ممتلئة بالعربات التى تجرها الحمير والبغال، ويسير فيها الفلاحون والصعايدة والخواجات وجنود الإنجليز بملابسهم الكاكية اللون.

توقفنا أمام مبنى ضخم، من حجر ناصع البياض، يحيط به سور من أعواد الحديد، ويعلوه برج عال داخله جرس نحاسى متألق، كانت كنيسة، ولكنها فخمة ونظيفة وليست مثل الكنائس الطينية الموجودة على أطراف النجع، تنهدت الأم فى ارتياح، وظلت عائشة تحدق فى المكان وهى مبهورة الأنفاس، كانت هناك لافتة مكتوبة بخطوط سوداء، ولكنها لم تكن تعرف القراءة ولا الكتابة، هرعت الأم فى لهفة إلى البوابة الحديدية، كانت مغلقة، تشبثت بها وأخذت تهزها، صرخت تنادى: يا من هنا! ولكنها لم تتلق ردا، وفكرت عائشة هل هذه نهاية رحلتنا؟ هل نعود؟ ولكن الأم لم تكن لتستسلم بسهولة، ظلت تدور، تبحث عن ثغرة تنفذ منها، شاهدت فى الركن من داخل البوابة حبلا متدليا، أدخلت يدها بين الأعواد الحديدية وجذبته بكل قوتها، رن صوت جرس معدنى، أشبه بصرخة استغاثة وسط هذا الصمت، جذبته أكثر من مرة، وظل الجرس يواصل الطنين، توسلت عائشة إليها:
هذا يكفى يا أمى.
قالت الأم: يجب أن يعرفوا أننا هنا، وأننا نحتاج إليهم.
وأخيرا ظهر من آخر الفناء شخص قادم، شاب طويل القامة، له شارب كث، ويضع على رأسه عمامة صغيرة، بدت على وجهه علامات الانزعاج.

ماذا تريدان؟
قالت الأم: أتوسل إليك، لقد جئنا من سفر بعيد، وكل ما نريده هو أن نقابل الأم الرئيسة.
إنها مشغولة، ومن المستحيل أن أزعجها، ثم إنها لا تقابل أحدا من دون ميعاد.
وقبل أن تقول الأم أى كلمة إضافية استدار ووضع حبل الجرس بعيدا عن متناول يدها وانصرف مبتعدا، تقافزت الأم، وأخذت تنادى عليه، لم يلتفت خلفه حتى اختفى عن أنظارهما، صاحت الأم فى حنق وضربت الباب بقبضتها، قالت عائشة فى خوف:
هل سننصرف؟
قالت الأم من بين أسنانها:
من الذى تحدث عن الانصراف؟ سننام أمام البوابة.

جلستا على الأرض وظهرهما إلى القضبان الحديدية، وتأملها بعض المارة بنظرات عابرة، ظلت «عائشة» تنظر إلى وجه أمها، تنتظر منها تفسيرا لهذه الرحلة الشاقة، صعدت الشمس عاليا، ثم بدأت فى الهبوط، أحست عائشة بالجوع والعطش ولكنها لم تجرؤ على الشكوى، وكان المبنى صامتا، لا يصدر منه حس ولا حركة
توقيع :رحمة
quicklook4u-bffcd6e0bc


look/images/icons/i1.gif رواية يوم غائم في البر الغربي وهى قصة مسلسل وادى الملوك
  25-12-2011 08:44 مساءً   [2]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 2008-08-27
رقم العضوية : 6
المشاركات : 9822
الدولة : EG
الجنس :
الدعوات : 29
قوة السمعة : 1561
التعليم : جامعي
الهواية : طهي
سمعتا صوت أحد الأبواب وهو يفتح، نهضتا معا، لم يكن الصعيدى هو القادم هذه المرة، كان شخصا ضئيل الحجم، يرتدى عباءة سوداء، ويسير بطريقة غريبة، كانت امرأة، ثوبها الواسع منسدل على جسمها ويحف بالأرض، تضع ذراعيها أمام صدرها وقد أدخلت يدها فى كم اليد الأخرى، توقفت أمامهما ورفعت وجهها، تأملتها عائشة فى دهشة، كانت «خواجاية» ترتدى زى الراهبات، وجهها مستدير، مشرب بحمرة خجولة، وعينان زرقاوان واسعتان، نظرت إليهما من بين القضبان فى امتعاض، ولابد أنها حسبت أنهما شحاذتان قالت بهلجة عربية متكسرة:
ماذا تريدان؟.. لا يوجد ما نقدمه!
أمسكت الأم بالقضبان وهى تهتف فى توسل:
نحن فى عرضكم، جئنا من سفر بعيد ولا نستطيع العودة، سدت من خلفنا كل الطرق، ولابد أن إقبال السيدة الرئيسة.
ــ نحن لا نستقبل عابرى السبيل.
تراجعت الأمن قليلا، ثم أشارت لعائشة وهى تقول:
لا أفعل هذا من أجلى، ولكن من أجل هذه الصغيرة.

أدارت «الخواجاية» رأسها وتأملت عائشة، رأت علامات التعب والجوع وخيبة الأمن بادية بوضوح على وجهها، واصلت الأم القول:
إنها مهددة بالموت، ولو رددتنا من أمام هذا الباب فسوف تموت حتما.

بدا الفزع على وجهها وهتفت: صدقا؟..
ــ أقسم بالمسيح على ذلك
ترددت «الخواجاية» قليلا، أدخلت يدها فى فتحة ثوبها وجذبت خيطا مربوطا فيه مفتاح كبير، لا يمكن تصوره معلقا فى رقبة أحد، أدارته فى الباب، وساعدتها الأم بدفع البوابة من الخارج، وقفزت قبل أن يدعوها أحد للدخول. سارت «الخواجاية» فى المقدمة، وجذبت الأم عائشة حتى تلحقا بها، اتجهتا إلى المبنى الضخم الذى يعلوه البرج، دخلتا من الباب إلى قاعة رطبة معتمة، بدأت عائشة ترتجف، أشارت «الخواجاية» إلى مقعد خشبى مستطيل وهى تقول:
انتظرا هنا.

استندت عائشة إلى ظهر المقعد، كانت الجدران عالية، لا توجد فيها إلا نافذة قوية من السقف عليها زجاج ملون، هى مصدر الضوء الوحيد، مرسوم على الجدران صور غريبة، أشخاص، وبلدان وسفن ضخمة، كل شىء كان يترقبها فى جمود وصمت، أمسكت الأم بكتفيها حتى تتوقف عن الارتجاف، قالت بصوت بارد:
تماسكى يا بنت، وصلنا إلى نهاية رحلتنا، فلا تفسدى كل شىء.

أوشكت عائشة أن تبكى، قالت فى صوت مرتعد:
لا أدرى ماذا تنوين أن تفعلى بى؟
سأقول لك بعد أن ينتهى كل شىء.
توقفت عن الكلام عندما سمعت صوت خطوات قادمة، ظهرت «الخواجاية» وأشارت إليهما أن يتبعاها، سارا فوق أرض خشبية، نظيفة ولامعة كالمرآة، كانت الجدران أيضا مكسوة بخشب لامع، وكانت عائشة ترى انعكاس ظلها وهى تسير، توقفت أمام باب آخر مغلق، وطرقت الباب بلطف، ثم دخلت وهما خلفها، كان فى الغرفة أيضا نافذة وحيدة، وصلب ضخم معلق وصورة لامرأة تحمل طفلا، ومكتب ضخم يتوسط الغرفة، تجلس خلفه امرأة عجوز ترتدى هى أيضا زى الراهبات.

فوجئت عائشة بأمها تترك يدها وتنبطح بكامل جسمها على الأرض، ظنت «عائشة» أن جسد أمها قد خانها أخيرا، وأن تماسكها المؤقت قد انتهى، ولكن الأم فردت ذراعيها وضمت ساقيها ونكست رأسها حتى أصبحت على هيئة صليب، أصيبت الراهبة الموجودة خلف المكتب بالفزغ، نهضت، بدا جسدها أكثر ضخامة، قالت بلغة عربية تشوبها لكنة غريبة:
ــ هذا لا يليق.. ارفعى رأسك وانهضى.

قالت الأم ووجهها مازال منكفئا
لا أستطيع يا سيدتى، ليس قبل أن تستجيبى لطلبى وتنقذى ابنتى.
نحن لا نفعل ذلك إلا أمام المذبح، لا أحد يسجد للبشر، انهضى وأخبرينى ماذا تريدين.
نهضت الأم ولكنها ظلت جالسة على الأرض، كانت الدموع الغزيرة تغطى وجهها، لا تدرى عائشة من أين أحضرتها، أشارت الأم إليها وهى تقول:

أريد أن تنقذى حياة ابنتى، الموت متربص بها.

نظرت المرأة إلى عائشة بوجهها الذى يشبه الوجوه المرسومة على جدران المقابر، قالت:
أى موت؟
نحن من أسرة مسلمة عريقة، ولكننا تنصرنا، اخترنا طريق المسيح..
شهقت الراهبتان، الكبرى والصغرى، فلم تسمعا شهقة عائشة، الأم وحدها هى التى ظلت متماسكة وهى تواصل الحديث:
كانت لحظة من نور يا سيدتى، جاءت سيدتنا العذراء ما بين الحلم واليقظة، وتجلت لى، ولم يكن أمامى إلا أن أتبع طريقها.

بدا القلق على وجه الراهبة العجوز، كانت القصة مبتذلة إلى درجة لا يمكن تصديقها، وشعرت الأم بذلك فالتفتت إلى عائشة وهى تقول فى حزم:
اكشفى عن ذراعك.
كان صوتها قد استعاد بعضا من نبرته المسيطرة، شمرت عائشة الثوب فبدا ذراعها المتورم، وبدت نقاط الصليب مغروسة فى الجلد، كانت بشعة ومؤلمة خصوصا بالنسبة لهذه الذراع الصغيرة.
ولأول مرة تدخلت الراهبة الصغيرة، قربت وجهها من الذراع الملتهب وهى تهتف:
ــ ما كل هذا التورم والاحتقان؟!
قالت الأم: لقد حاول أهلنا سلخ الصليب من على جلدها، ولو لم نهرب لكانوا قد قطعوا الذراع كلها.
تراجعت الراهبة الصغيرة فى رعب وهى ترسم علامة الصليب على صدرها، ضمت يدها لصدرها وأخذت تبتهل فى صمت، وعيناها الواسعتان تلمعان فى شدة، قالت الراهبة الرئيسة:
أنتم فعلتم هذا الوشم بطريقة وحشية أيضا.. احفظنا يا رب..

وعلى الرغم من أن عائشة قد غطت ذراعها إلا أن تأثير المنظر ظل باقيا، لمست الأم ركبة الرئيسة بلمسة خفيفة وقالت بصوت خافت: أنقذيها يا سيدتى، ضميها إلى مدرستك، أعطيها الفرص لتتعلم وتنقذ حياتها فى الوقت نفسه.

قالت الرئيسة فى ضيق: ليست هذه مهمتنا، إننا مجرد مدرسة أمريكية فى أرض غريبة لا يجب أن نقحم أنفسنا فى المشاكل الداخلية، لا يوجد هنا إلا بنات الأسر القبطية، لا مكان عندنا لهاربات.

نظرت الراهبة الصغيرة إلى عائشة فى وقفتها الذليلة المنكسرة، لم تكن تعلم أن الأم قد أضنتها جوعا وسيرا حتى تبدو على هذه الهيئة، تقدمت الراهبة الصغيرة من الأم الرئيسة، تحدثت معها بلغة غير مفهومة، نظرت إليها الأم فى استنكار، خفضت وجهها فى خجل بالغ وعادت إلى ركن الغرفة، ولكن الأم أحست أن شيئا ما قد تغير، تنهدت الرئيسة وأشارت إلى عائشة وهى تقول:
ما اسمها؟
قالت الأمن فى سرعة: أطلقى عليها أى اسم، لم يعد اسمها القديم لائقا.
ألا يوجد معكما أى أوراق؟
فى نجعنا النائى لا توجد أى أوراق، نحن نولد ونموت دون أن يدرى أحد بوجودنا.
نظرت الرئيسة حولها فى حيرة:
أليس معكما أى حقائب أو ملابس؟
نحن هاربتنان يا سيدتى، لم نستطع أن نحمل أى شىء حتى لا نلفت الأنظار إلينا.

سكتت الأم الرئيسة، تأملت وجه الراهبة، والصليب المعلق، وأيقونة العذراء، ثم قالت:
لا أدرى ما أفعل (أشارت إلى الراهبة الصغيرة التى كانت تعض على شفتيها فى خجل) الأخت مرجريت تقول إننا يجب أن نساعد الأرواح الهائمة، ولكننا جئنا هنا لنساعد المسيحيين، ولا نريد أن نكون طرفا فى أى نزاع أو فتنة، وليس لنا شأن بالمتحولين ولا الهاربين، لا نريد أيضا أن نثير المسلمين ضدنا، هذه الابنة المسكينة قنبلة يمكن أن تقوض مهمتنا هنا.
قالت الأم:
جئت لأنقذ ابنتى، وليس لإثارة الشقاق، وجودها هنا سر.. سوف أحمله معى إلى القبر.


توقيع :رحمة
quicklook4u-bffcd6e0bc


look/images/icons/i1.gif رواية يوم غائم في البر الغربي وهى قصة مسلسل وادى الملوك
  25-12-2011 08:49 مساءً   [3]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 2008-08-27
رقم العضوية : 6
المشاركات : 9822
الدولة : EG
الجنس :
الدعوات : 29
قوة السمعة : 1561
التعليم : جامعي
الهواية : طهي
ولتحميل القصة كلها

[]يوم غائم في البر الغربي - محمد المنسي قنديل


من هنا

http://www.mediafire.com/?ugq9idi3ji39f00

او

[font=Simplified Arabic][/font]http://www.4shared.com/office/mR0Ik6aA/_____-___.html


تم تحرير المشاركة بواسطة :رحمة بتاريخ:26-12-2011 12:31 صباحاً

توقيع :رحمة
quicklook4u-bffcd6e0bc


look/images/icons/i1.gif رواية يوم غائم في البر الغربي وهى قصة مسلسل وادى الملوك
  25-12-2011 09:53 مساءً   [4]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 2008-08-27
رقم العضوية : 6
المشاركات : 9822
الدولة : EG
الجنس :
الدعوات : 29
قوة السمعة : 1561
التعليم : جامعي
الهواية : طهي

يوم غائم في البر الغربي


1

رواية “عبقرية ” ، و تستحق أن تكون على قائمة البوكر و بجدارة . كيف أستطاع ” المنسي قنديل ” أن يجمع كل تلك الأحداث و الأزمان المختلفة في رواية , كيف استطاع أن يصف معاناة ” عائشة ” بتلك البراعة !
حين يتحدث في البداية عن جريمة تفتعلها والدة عائشة حين توشم صليب على ذراعها ، ثم يتضح أنها تخطط لتنقذ أبنتها الوحيدة من بطش عمها و شهوانيته الحيوانية و تودع ” عائشة ” في مدرسة الراهبات التابعة للكنيسة بعيداً عن النجع ، و تدعي أنها أعتنقت الديانة و هربت من بطش أهلها !
لترحل عن أبنتها للابد …
ثم تُطرد “ماري” أو ” عائشة ” من المدرسة بعد أن تورطت مع تلك الراهبة الامريكية في مشكلة ما ، و تبدأ عائشة رحيلها الذي لا ينتهي ، و كلما أتخذت لها مكان يأتي يوماً ليضيق بها و تنتقل لغيره .
فـ عندما انتقلت إلى المينا عند صديقتها ” ايزيس ” أبنة الباشا تتعرف على مجتمع اخر ، و ينبهر بها “هوارد كاتر ” و يتخيلها أميرة فرعونية من زمن ما !
و يلتفت إليها اللورد ” كرومر ” ، لتذهب بعد ذلك إلى عرينه كمترجمة لزوجته ثم له .
ليأتي عالم اخر و حادثة دنشواي
و يلتفت إليها ” عبد الرحمن الرافعي ” و يسألها بلوم كيف تعمل عند العدو !
لتُفكر في كلماته و تنتقل إلى جريدة “اللواء” و زعيمها الراحل ” مصطفى كامل ” و يبدأ النضال الوطني و الثورات للتحرر من الإنجليز .
و يظهر فجأة الرسام المصري المعروف ” محمود مختار ”
ليبدأ القدر أفاعيله و لتنتهي تلك القصة بالفراق
بعد أن أُعتقل “محمود مختار ” في مظاهرة ما ، و كعادة كل المعتقلين السياسيين حين يُطلق سراحهم ، يتركون كل ما له صلة بالماضي و محاولة جديدة للعودة إلى الحياة و السفر للخارج بعد أن تم رفد الرسام لنشاطه السياسي !
ليأتي ذلك العم ليزيد من أوجاع ” عائشة ” و بعد أن حاولت أمها بكل الطرق إبعادها عنه ، يصل إليها و يخبرها أن أمها على مشارف الموت و لا تطلب سوى أن ترى أبنتها الوحيدة … و بسذاجة تصدقه عائشة و تسافر معه لتقع في شره
و يتضح أن الأم قد فارقت الحياة لتأتي عائشة إلى سجنها دون أن تعلم
و يفتعل بها ذاك العم أبشع و أشنع الأفاعيل
حتى تصير حيواناً أليفاً لديه
لتنتقم منه الذئاب في يوم
تلك ” الذئاب ” حراس عائشة المجهولين , دوماً تطاردها الذئاب منذ صغرها و طول الرواية , و تهرب عائشة الى القاهرة ثانية , و لكنها لم تجرأ للعودة إلى منزلها القديم .
و تذهب في بيت من بيوت ” وش البركة ” التي تُعتبر سوقاً لممارسة الدعارة .
و يسلط الكاتب تركيزه على تلك الطبقة المنسية , بائعات الهوى البائسات , و ترفض عائشة أن تنضم إليهم , فقط تقيم فى حجرة بعيدة حتى يأتى لها ” هوارد كارتر ” ثانية .
ذلك الشاب المهوس بالآثار المصرية و هوسه الأكبر في أن يصل لمقبرة ملكية !
و يلح عليها في أن ترافقه إلى الأقصر , ذلك المكان الساحر و البر الغربى , و كأن كارتر كان يريد شخص يشاركه فشله المستمر , ليكتشف فى النهاية
” مقبرة توت عنخ آمون ” .
لم يكتف ” محمد المنسي قنديل ” بذلك العصر , بل رجع إلى الوراء بأكثر من ألاف الأعوام , لعصر ” أخناتون ” , ذلك الملك العظيم الذى نادى بالتوحيد .
و غضبه على الآلهة و الكهنة و مقته الشديد لــ آمون , تلك الحكاية الفرعونية التى يعرفها الجميع , و ربما درسها الكثير و لكنها لم لتخل من جفاء مادة التاريخ .
أختلف الحال بالطبع مع ” المنسي قنديل” , حين كتب عن تاريخ مضى و ملك ضاع و هزم شر هزيمة , ” أخناتون ” ذلك الملك الذى ظل يعانى طيلة حياته .
لم تكن له حبيبة و زوجة سوى “نفرتيتي” الجميلة التى انجبت له من البنات ستة , و لم تنجب له ولى العرش .
ليلاقاه “أخناتون ” اثر عودته من رحلته المجهولة ، أو هروبه من طيبة حين جاذف و سافر إليها متنكراً ليودع والدته الملكة “تي” قبل ذهابها إلى العالم الاخر
ذلك الولد ربيب الذئاب “توت عنخ آتون ” الاصغر من البنات ، تزوج من أبنة ” أخناتون ” الكبرى ” عنخ اسن ” المتمردة الانانية , و يموت أخناتون و يدفن فى مكان مجهول .
و ينتصر ” حور محب ” أخيراً في حربه و يرفع رايات الإله ” آمون ” مرة اخرى , و تهجر مدينة ” أخت أتون ” التى أنشأها الملك ” أخناتون ” .
و ترفض ” نفرتيتي ” ترك مدينة زوجها و تصر على أن تدفن في تلك المدينة بالقرب من زوجها و هكذا حال بناتها ، ماعدا ” عنخ اسن ” التي حملها ” حور محب ” و القائد الحربي رغماً عنها إلى طيبة .
و يتحول أسم ” توت عنخ آتون ” إلى ” توت عنخ آمون ” و يستغرق كل وقته في بناء مقبرته العظيمة … التي يكتشفها اللورد ” كارتر
توقيع :رحمة
quicklook4u-bffcd6e0bc

اضافة رد جديد اضافة موضوع جديد




الكلمات الدلالية
رواية ، يوم ، غائم ، في ، البر ، الغربي ، وهى ، قصة ، مسلسل ، وادى ، الملوك ،









الساعة الآن 11:38 AM