منتديات كويك لووك
(نسخة قابلة للطباعة من الموضوع)
https://www.quicklook4u.com/vb/t9640
أنقر هنا لمشاهدة الموضوع بهيئته الأصلية

قصة تشابة قصة حياة الكثير منا( منقولة )
emadelmansy 25-05-2010 01:14 مساءً
(1)
سيدنا المعلم

إلى روح أمي الحبيبة : حرقة الشوق ..إليك ..واعتراف بأفضالك ...

عجيب أمر هذا العالم ، كنا نقطع مسافة سبع كيلومترات صباحا ومثلها في المساء للذهاب إلى المدرسة، ونظرا لطول هذه المسافة وقساوة أحوال الطقس ، كنا في غالب الأحيان نتأخر عن الوصول في الوقت ، نخرج مع طلوع أول نجمة للفجر، ونعود وسط ظلام دامس . وعند الوصول يستقبلنا سيدنا المعلم بمسطرة حديدية ينزل بها على أظافر أصابعنا البريئة التي لا نستطيع جمعها من فرط البرد. كان الإكراه البدني هو السمة المميزة لسادتنا المعلمين، دون إغفال ما كانوا يجودون به علينا من عبارات السب والشتم والبصق في الوجوه الحيوانية التي نحملها.
أتذكر والذكرى مؤلمة جدا كيف أن أحد الزملاء ، وصل ذات يوم، ممطر وبارد جدا ، متأخرا وعوض أن يرحمه المعلم أمره بصوته المدوي المرعب ( طلق إيدّك) وبعين دامعة تدعو إلى الرحمة طلب المعذرة بكل التعابير العربية التي يحفظها، وتلك التي لا يعرف نطقها، إلا أن اجتهاده ورجله الحافية وثيابه التي تقطر من شدة الأمطار لم تشفع له عند سيدنا المعلم الطاغية، فأمره بالوقوف على رجل واحدة ورفع يديه إلى الأعلى لمدة يمكن تحديدها بنصف ساعة أو ما يزيد ، ( الشلح الخانز ، الحمار ، الكلب ، ولد القح....) هذه نماذج من الكلمات الجميلة التي كان سيدنا المعلم يمطرنا بها عند بداية كل درس.
كان زميلنا ضخم الجثة. ومن فرط الأوساخ والبرودة، تشققت بشرة يديه ، وخلال إحدى حملات النظافة التي يحلو لسيدنا المعلم أن يقوم بها يوم السبت صباحا، إذ كان يأمرنا بوضع اليدين على الطاولة ، والويل كل الويل لمن طالت أظافره أو اتسخت أو تشققت بشرة يديه من فرط البرد / الجريمة . فلما وصل إلى بلحسن- ضخم الجثة – وجد يديه في حالة خاصة، أمره على إثرها أن يطوف على التلاميذ في القسم يضع يديه أماهم للبصق عليها، والويل للرافض. وبعدها كتب على ورقة عبارة = حمار متسخ = وأمره بعدما علقها على ظهره أن يتجول بها في المدرسة ويدخل كل الأقسام، إلا أن رحمة ومروءة أحد المعلمين – الذي كان يحظى بحبنا جميعا- حالت دون إتمام نزوة سيدنا المعلم .
كانت ساقاي الرقيقتان لا تقويان على حمل جثتي النحيلة من فعـل الأمراض وسوء تغذية الصبي ورغم ذلك كنت أصارع كل المثبطات والإحباطات ، كانت أمي –رحمها الله - تستيقظ مبكرا لتهيئ فطوري المكون غالبا من الشاي والخبز وتدس في محفظتي الجلدية – التي رافقتني مدة دراستي الابتدائية – قارورة من الشاي حجم نصف لتر الذي سيشكل إلى جانب الخبز اليابس غذائي طول اليوم، وكم كنا نتباهى بما يصاحب خبزنا في وجبات الغذاء، وأغلب الأيام يكون الخبز الحافي سيد الميدان دون منازع. وفي بعض الأحيان كان سيدنا المعلم، يسطو على خبزي لأقضي اليوم كله بين طالب لمساعدة زملائي، أو صائم بدون أجر.
وأحسن الأيام يومي الاثنين يوم السوق الأسبوعي ويوم الثلاثاء، إذ كانت الحبيبة أمي تحتفظ بنصيبها من اللحم أو السمك وتدسه في خبزي، فأسعد بذلك وأتباهى به طوال اليوم، إذا لم يعكر سيدنا المعلم صفو يومي. كانت المسكينة تنتظرني في منتصف الطريق، كيفما كانت أحوال الطقس، لتحمل محفظتي وكثيرا ما حملتنا معا.
في الغالب الأعم نصل إلى المنازل مبللين ، ونظرا لعدم وجود ملابس أخرى للتغيير، كنت أنزع ما علي من ثياب مبللة وتلفني أمي في لحاف صوفي خشن يؤذي جسمي المنهك، وتجلسني قرب الكانون أو المجمر وتضع ثيابي صوب اللهيب علها تجف لليوم التالي، وكم اضطررت إلى ارتدائها نصف مبللة. أما النوم فكنت مع أفراد الأسرة ننام فوق حصير وضع تحته سعف الدوم لمقاومة البرودة، وأية مقاومة، فأجسامنا معرضة للبرد ليل نهار.
ما أقسى هذه الذكريات التي لا تفارق مخيلتي ، وتلسعني كلما نطت من مكانها للظهور. أسعد أيامي على الإطلاق يوم أرافق والدي إلى السوق حيث كان يتبرع علي بمبلغ كبير جدا لا يتجاوز 10 عشر سنتيمات، وقد يجود علي أصدقاؤه ببعض القطع النقدية قد تصل في بعض الأحيان نصف درهم كامل .
أذكر أنى تهورت ذات سوق واشتريت كرة ، وكان جزائي حالا صفعة من والدي مازال صداها في أذني اليمنى، ما أشدها، وأقسم بأغلظ الأيمان ألا أدخل المنزل إن لم أسترد ثمن هذه الكرة اللعينة التي اضطررت إلى بيعها بنصف ثمنها .
كانت الأيام تتسارع ووتيرة التغيير تتثاقل، والفقر الشديد يثقل كاهل الآباء والعائلات، وكانت علاماته ظاهرة على جل تلاميذ المدرسة إلا بعض أبناء الأسر الغنية، هؤلاء كانوا محظوظين يعاملون معاملة خاصة من طرف سيدنا المعلم الذي كان يقربهم منه ويجلسهم غالبا بجانب المدفأة .
طول المسافة الفاصلة بين الدوار والمدرسة يؤثر على مستوانا الدراسي والمعرفي، وكنا في أحسن الأحوال ننجز تمرينا واحدا أو نحفظ جزءا من سورة قرآنية أو جدولا من جداول الضرب.
حصل ذات يوم و أن داهمني النوم ولم أستطع حفظ عشر آيات من سورة المجادلة ( قد سمع ..) ، وكان يوم الجمعة يوم نحس للقسم، إذ كنا فيه نستظهر السور السابقة وما تمت دراسته من السورة الحالية، ولسوء حظي أنني كنت أول مستهدف بالاستظهار، أشار إلي الأستاذ "قم آ الضلعة العوجة ، استظهر" ، بدأت في السرد وبسرعة، محاولا تجنب الأخطاء، لعل ذلك يعفيني من المجادلة، إلا أنه ولإتقانه لعلم الشر، أوقفني وطلب مني الانتقال مباشرة إلى قوله تعالى : ( عن الذين يظهرون منكم من نسائهم ...) بدأت أتمتم ..إن الذين ...إن الذين ( أجي أمير الحمير.. أنت حافظ. ؟ ) نعم أستاذ أسكت الموسخ . فأمرني بالتوجه إلى السبورة و الوقوف على رجل واحدة ورفع اليدين إلى الأعلى وكان كريما معي إذ لم يعرضني للإكراه البدني بل طلب مني إحضار الآيات مكتوبة عشر مرات كعقوبة وإلا ستضاعف مرتين.
وفي نفس السياق أتذكر بمرارة صفعة من أحد أسيادنا المعلمين وكنت في طريقي إليه لأقدم شكوى ضد أحد التلاميذ الذي ألف السطو على حصتي من خبز المطعم ( الكومير) فما كان من السيد المعلم إلا أن صفعني صفعة وقذفني بركلة القاني منشورا على الأرض، ركلة استجاب لها قضيبي بشلال بول ظلت نتانته في سروالي أسبوعا كاملا. واكتشفت في الأخير أنه أحد لاعبي المنتخب الوطني الذي كان مؤهلا لكأس العالم بالمكسيك ولاعب المغرب الفاسي الّذي لا أعرف منه حتى الاسم .
في الاستراحة كنا نصنع كرة من الأوراق التي يساهم الجميع في جمعها، وكل من لا يساهم لا يلعب، نلفها بحبل من الدوم، ونتوزع إلى فريقين يضم كل فريق مجموعة من تلاميذ القسم أو دوارا معينا دون الاكتراث بالعدد. وكم كنت أتباهى باسم الحارس علال ، وأنا أقف بين حجرين، أصد كرة أو أقذف أخرى بدون اتجاه، رغم أنني لم أكن أعرف الرجل.
كم كنا معجبين بالمعلم اللاعب دون أن نعرف انه سيكون له شأن كبير في المكسيك مع منتخب بلادنا، وكان يتنازل عن هبته ووقاره ليداعب كرتنا المحلية الصنع، بل كان يعلمنا في بعض الأحيان كيف نتعامل معها والأكثر من ذلك أنه جاءنا ذات يوم بكيس من الكرات البلاستيكية وزعها على الأقسام. وبعد عودة المنتخب من كأس العالم لم يعد له أثر في المدرسة.
يتسيد الفقر في قريتنا في هذه الفترة وعلاماته لا يمكن أن تخفى على الناظر إلى وجوهنا وملابسنا، كنت أرتدي أو يرتديني سروال مرقع من الركبتين وعلى مستوى المؤخرة، و سبب ذلك يرجع إلى لعبة نسميها (ثحنشوث) الانزلاق ، إذ كنا نقطع قطعا من الصبار ونبحث عن منحدر نتبول فيه حتى يصبح قابلا للانزلاق فنركب الصبار الذي يتفاعل مع البلل والانحدار فينزلق مسافات طويلة وغالبا ما يضيع منا الصبار فننزلق على مؤخراتنا مما يتسبب في تمزيق الرقعة تلو الرقعة في سراويلنا .
كنت ارتدي من الملابس ما أستطيع لمحاربة البرد دون اعتبار للألوان أو الأنواع حتى إذا حل فصل الصيف أتحرر من هذه الأسمال ، وأكتفي بقميص وسروال قصير تصنعه أمي من سروال طويل يئست من ترقيعه، وأظل هكذا إلى بداية أكتوبر موعد الدخول المدرسي الجديد حيث يحظى الجميع بارتداء ملابس جديدة.


_________________

فلو أستطيع طرت إليك شــوقا *** ولكن كيف يطير مقصوص الجناح ؟






منتديات كويك لووك

Copyright © 2009-2024 PBBoard® Solutions. All Rights Reserved